شبهات وردود -2-
الإسبال
يقول الإمام الشاطبى بعد ذكره مناظرة بين أحد علماء أهل السنة وأحمد بن أبى دؤاد المعتزلى فى القول بخلق القرآن: " ومدار الغلط فى هذا الفصل إنما هو على حرف واحد؛ وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض؛ فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها، فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام فذلك الذى نظمت به حين استنبطت.00
فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة"([1]) ثم يقول: " من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر فى مقيداتها، وبالعمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا ؟ وكذلك العكس بأن يكون النص مقيدا فيطلق، أو خاصا فيعم بالرأى من غير دليل سواه؛ فإن هذا المسلك رمى فى عمامة، واتباع للهوى فى الدليل؛ وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد، فإذا قيد صار واضحا، كما أن إطلاق المقيد رأى فى ذلك المقيد معارض للنص من غير دليل"([2])0
وموضوعنا هذا وردت فيه أحاديث مطلقة، وأخرى مقيدة بالخيلاء، فوجب رد المطلق إلى المقيد، وإليك الأحاديث ثم أقوال العلماء فيها:
(1) عن أبى ذر رضى الله عنه عن النبى r قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم0 قال: فقرأها رسول الله r ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" رواه مسلم ح(171)0
(2) عن ابن عمر رضى الله عنهما ـ أن رسول الله r قال: " لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلا" رواه البخارى ح (5783).
(3) عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضى الله عنه عن النبى rقال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، قال أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقى إزارى يسترخى إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال النبى r: لست ممن يصنعه خيلاء" رواه البخارى ح(5784).
(4) عن الحسن عن أبى بكرة رضى الله عنه قال: خسفت الشمس ونحن عند النبى r فقام يجر ثوبه مستعجلا حتى أتى المسجد، وثاب([3]) الناس، فصلى ركعتين، فجلى عنها، ثم أقبل علينا وقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا وادعوا الله حتى يكشفها) رواه البخارى ح(5785).
(5) عن أبى هريرة رضى الله عنه ـ أن رسول الله r قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا" رواه البخارى ح(5788)0
(6) عن سالم بن عبد الله أن أباه حدثه أن رسول الله r قال: "بينا رجل يجر إزاره إذا خسف به، فهو يتجلجل فى الأرض إلى يوم القيامة" رواه البخارى ح(5790).
(7) عن شعبة قال: لقيت محارب بن دثار على فرس وهو يأتى مكانه الذى يقضى فيه، فسألته عن هذا الحديث، فحدثنى فقال: سمعت عبد الله بن عمر رضى الله عنهما ـ يقول: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم:"من جر ثوبه مخيلة لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقلت لمحارب: أذكر إزاره؟ قال: ما خص إزارا ولا قميصا" رواه البخارى ح(5791).
قال الإمام النووى فى الحديث الأول:" وأما قوله r: (المسبل إزاره) المرخى له، الجر طرفه خيلاء، كما جاء مفسرا فى الحديث الآخر: (لا ينظر الله من يجر ثوبه خيلاء) والخيلاء: الكبر؛ وهذا التقييد بالجر خيلاء يخصص عموم المسبل إزاره، ويدل على أن المراد بالوعيد من جره خيلاء، وقد رخص النبى r فى ذلك لأبى بكر الصديق رضى الله عنه، وقال: "لست منهم" إذ كان جره لغير خيلاء، وقال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى وغيره: وذكر إسبال الإزار وحده؛ لأنه كان عامة لباسهم، وحكم غيره من القميص وغيره حكمه، قلت [أى النووى]: وقد جاء ذلك مبينا منصوصا عليه من كلام رسول الله r من رواية سالم بن عبد الله عن أبيه رضى الله عنهم عن النبى r قال: الإسبال فى الإزار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة" [رواه أبو داود والنسائى وابن ماجه بإسناد حسن]0والله أعلم"([4])0
وقال الخطابى: " إنما نهى عن الإسبال لما فيه من النخوة والكبر"([5])، وقال أيضا: " وقد روينا أن أبا بكر رضى الله عنه ـ استأذن رسول الله r فيما يسقط من الإزار فرخص له فى ذلك وقال: لست منهم، وكان السبب فى ذلك ما علمه من نقاء سره، وأنه لا يقصد به الخيلاء والكبر، وكان رجلا نحيفا قليل اللحم، وكان لا يستمسك إزاره إذا شده على حقوه فإذا سقط إزاره جره، فرخص له رسول الله r فى ذلك وعذره"([6])0
وقال ابن حجر فى شرحه للأحاديث التى ذكرها البخارى تحت باب من جر ثوبه للخيلاء:" وفى هذه الأحاديث أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضا، لكن استدل بالتقييد فى هذه الأحاديث بالخيلاء على أن الإطلاق فى الزجر الوارد فى ذم الإسبال محمول على المقيد هنا، فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء.
قال ابن عبد البر: مفهومه أن الجر لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد، إلا أن جر القميص وغيره من الثياب مذموم على كل حال0 وقال النووى: الإسبال تحت الكعبين للخيلاء، فإن كان لغيرهما فهو مكروه، وهكذا نص الشافعى على الفرق بين الجر للخيلاء، ولغير الخيلاء قال: والمستحب أن يكون إلازار إلى نصف الساق، والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين، وما نزل عن الكعبين ممنوع منع تحريم إن كان للخيلاء، وإلا فمنع تنزيه؛ لأن الأحاديث الواردة فى الزجر من الإسبال مطلقة فيجب تقييدها بالإسبال للخيلاء"([7])0
من كلام العلماء السابق نخلص إلى ما يأتى: الدين يوجه أكبر العناية إلى النيات والمعانى القلبية؛ كالكبر والفخر والبطر ونحوها من أمراض القلوب أما مجرد تقصير إزار أو ثوب فإنه داخل فى باب التحسينات التى تتعلق بالآداب والمكملات؛ فمن أراد أن يقصر ثيابه فبها ونعمت، ولكن لا يلقى باللوم على الآخرين إذا كان ثمة إطالة عادية تابعة للعرف والعادة بعيدة عن الكبر والخيلاء بل إن الإمام الطبرى يجعل مراعاة زى الزمان من المروءة يقول: " إن مراعاة زى الزمان من المروءة ما لم يكن إثما، وفى مخالفة الزى ضرب من الشهرة"([8])0
وهذا موضوع لا يستحق أن يقيم الشباب الدنيا عليه ولا يقعدها ويشددون النكير على غيرهم فيها. بل عليهم أن يهتموا بما هو أكبر من ذلك وأفيد لهم من دعوة غير الملتزمين بدينهم كى يلتزموا به والله تعالى أعلى وأعلم.
------------------------------------------
([1] ) الاعتصام للإمام الشاطبى بتحقيق سيد إبراهيم ط/ دار الحديث القاهرة 1424 هـ 2003م 173، 174.
([2] ) الاعتصام 174.
([3] ) ثاب الناس: أى رجعوا إلى المسجد بعد أن كانوا خرجوا منه.
([4] ) شرح صحيح مسلم للإمام النووى ط1/ دار المنار 1418 هـ ـ 1997م 2/288، 289.
([5] ) معالم السنن للخطابى ، ط2/ المكتبة العلمية ـ بيروت 1401 هـ ـ 1981 م 4/195.
([6] ) معالم السنن 4/196.
([7] ) فتح البارى بشرح صحيح البخارى 10/310، 311.
([8] ) فتح البارى 12/424.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق