شبهات وردود -3-
إخراج القيمة فى الزكاة
كل مسألة ليس فيها نص قطعى الثبوت والدلالة فهى من مسائل الاجتهاد بيقين؛ والمسائل الاجتهادية التى اختلف فيها الأئمة، وتعددت فيها الآراء، لا يجوز فيها التشنيع والإنكار على من اقتنع برأى منها، وأخذ به، والقاعدة فى ذلك " لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المتفق عليه"0
وموضوعنا هذا من الموضوعات التى اختلف فيها الفقهاء "فأبو حنيفة وأصحابه والحسن البصرى وسفيان الثورى، وخامس الراشدين عمر بن عبد العزيز ـ رضى الله عنه ـ أجازوا إخراج القيمة فى الزكاة، ومنها زكاة الفطر، وهو قول الأشهب وابن القاسم عند المالكية0 قال النووى: وهو الظاهر من مذهب البخارى فى صحيحه ـ قال ابن رشيد: وافق البخارى فى هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل"([1])0
وأدلتهم ما يأتى:
(1) "إن الله تعالى يقول: ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً[[التوبة:103] فهو تنصيص على أن المأخوذ مال، والقيمة مال، فأشبهت المنصوص عليه0
أما بيان النبى r لما أجمله القرآن بمثل: ( فى كل أربعين شاة شاة) فهو للتيسير على أرباب المواشى، لا لتقييد الواجب به؛ فإن أرباب المواشى تعز فيهم النقود، والأداء مما عندهم أيسر عليهم0
(2) وقد روى البيهقى بسنده، والبخارى معلقا عن طاوس قال: قال معاذ باليمن أئتونى بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة. وفى رواية: لائتونى بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشق.00
000 قول معاذ الذى اشتهر فرواه طاووس فقيه اليمن وإمامها فى عصر التابعين ـ يدلنا على أنه لم يفهم من الحديث الآخر الذى أمره فيه الرسول rبأخذ الجنس (خذ الحب من الحب والشاة من الإبل.00) أنه إلزام بأخذ العين، ولكن لأنه هو الذى يطالب به أرباب الأموال، والقيمة إنما تؤخذ باختيارهم، وإنما عين تلك الأجناس فى الزكاة تسهيلا على أرباب الأموال، لأن كل ذى مال إنما يسهل عليه الإخراج من نوع المال الذى عنده كما جاء فى بعض الآثار: أنه عليه السلام جعل فى الدية على أهل الحلل حللا.
(3) روى أحمد والبيهقى أن النبى r أبصر ناقة مسنة فى إبل الصدقة فغضب وقال: قاتل الله صاحب هذه الناقة! (يعنى الساعى الذى أخذها) فقال: يا رسول الله، إنى ارتجعتها ببعيرين من حواشى الصدقة. قال: فنعم إذن) وهذا الحديث صالح للاحتجاج به من حيث السند، ومن حيث الدلالة، فإن أخذ الناقة ببعيرين إنما يكون باعتبار القيمة.
(4) إن المقصود من الزكاة إغناء الفقير وسد خلة المحتاج، وإقامة المصالح العامة للملة والأمة التى بها تعلو كلمة الله، وهذا يحصل بأداء القيمة كما يحصل بأداء الشاة، وربما يكون تحقيق ذلك بأداء القيمة أظهر وأيسر، ومهما تتنوع الحاجات فالقيمة قادرة على دفعها.
(5) ثم إنه يجوز بالإجماع العدول عن العين إلى الجنس، بأن يخرج زكاة غنمة شاة من غير غنمه، وأن يخرج عشر أرضه حبا من غير زرعه، فجاز العدول أيضا من جنس إلى جنس.00
(6) روى سعيد بن منصور فى سننه عن عطاء قال: كان عمر بن الخطاب يأخذ العروض فى الصدقة من الدراهم"([2])0
وقد عقد البخارى بابا لأخذ العروض فى الزكاة (وهو أخذ القيمة) مستدلا بأثر معاذ الذى رواه عنه طاوس؛ حيث طلب أن يأخذ منهم الثياب فى الصدقة مكان الذرة والشعير، فإن ذلك أهون عليهم وخير لأصحاب النبى r بالمدينة.
وهذا الأثر ذكره البخارى معلقا بصيغة الجزم، وهذا دليل على صحته إليه، وقد كان طاوس ـ وهو إمام اليمن وفقيهها فى عصر التابعين ـ عالما بأخبار معاذ باليمن، وإيراد البخارى لأثره فى معرض الاحتجاج به يقتضى قوته عنده([3])0
وهذا الأثر استدل به أبو حنيفة والمؤيد بالله والناصر والمنصور بالله وأبو العباس وزيد بن على([4])0
كما استدل البخارى بأحاديث أخرى منها ما جاء فى كتاب أبى بكر فى صدقة الماشية ونصه: عن أنس رضى الله عنه: أن أبا بكر رضى الله عنه ـ كتب له التى أمر الله رسوله rـ "ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده، وعنده بنت لبون، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين000" رواه البخارى ح(1448) " وأخذ سن بدل سن مع إعطاء قيمة الفرق دراهم أو شياها يدل على أن أخذ العين ليس مطلوبا بالذات، ولكن للتيسير على أرباب الأموال"([5])0
وقد ذهب ابن تيمية مذهبا وسطا بين الفريقين المتنازعين قال فيه: "الأظهر فى هذا: أن إخراج القيمة لغير حاجة، ولا مصلحة راجحة ممنوع منه، ولهذا قدر النبى rـ الجبران بشاتين أو عشرين درهما: ولم يعدل إلى القيمة ولأنه متى جوز إخراج القيمة مطلقا فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة، وقد يقع فى التقويم ضرر ولأن الزكاة مبناها على المواساة، وهذا معتبر فى قدر المال وجنسه. وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا بأس به؛ مثل: أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم فهنا إخراج عشر الدراهم يجزئه، ولا يكلف أن يشترى ثمرا أو حنطة؛ إذ كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك0
ومثل أن يجب عليه شاة فى خمس من الإبل، وليس عنده من يبيعه شاة، فإخراج القيمة هنا كاف، ولا يكلف السفر إلى مدينة أخرى ليشترى شاة ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة لكونها أنفع، فيعيطهم إياها، أو يرى الساعى أنها أنفع للفقراء، كما نقل عن معاذ بن جبل أنه كان يقول لأهل اليمن: ائتونى بخميس أو لبيس أيسر عليكم وخير لمن فى المدينة من المهاجرين والأنصار، وهذا قد قيل: إنه قاله فى الزكاة وقيل فى الجزية"([6])0
مما سبق يتبين أن القضية خلافية كل فريق له أدلته، وإن رجح كثير من علماء العصر إخراج القيمة فى الزكاة نظرا إلى المقاصد الكلية للشريعة مع عدم إهمال النصوص الجزئية.
([1] ) فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوى 2/241، 242.
([2] ) فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوى ط24/مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1418 هـ 1997م 2/803 ـ 805، وانظر: الفقه الإسلامى وأدلته للدكتور وهبة الزحيلى ط 3/ دار الفكر ـ دمشق 1409هـ ـ 1989 م 2/854، 855.
([3] ) انظر: فتح البارى بشرح صحيح البخارى لابن حجر 3/200.
([4] ) انظر: نيل الأوطار للشوكانى 4/316.
([5] ) فقه الزكاة 2/806.
([6] ) مجموع فتاوى ابن تيمية ط/ السعودية 25/82، 83.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق