لولا مخالطةُ الناس ودعوتهم والصبر على أذاهم ما وصل الإسلام إلينا ، ولا جاءتنا رسالة النور والهدى، ولو أن النبى r اعتكف فى مسجده أو بيته وانتظر مجيء القوم إليه ما جاءه أحد . ومن ثم جاء التوجيه القراّنى للحبيب r : ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾. وتأمل هذا الأمر للنبى r ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) فأُمر بالصبر لحُكمِه وهو سبحانه لا يحكم إلا بالحق والعدل، وقال له ((فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)) فصيغة الجمع لزيادة التثبيت والتأنيس، ومن كان بعين الله ومرأى منه فلن يضيع ولن يغلب، ثم أمر بالتسبيح كما أمره به في جملة آيات على أعقاب أمره بالصبر، ولعل السر فيه أن التسبيح يعطى الإنسان شحنة روحية تحلو بها مرارة الصبر، ويحمل التسبيح بحمد الله معنيين جليلين لابد أن يرعاهما من ابتلي:
1- تنزيه الله تعالى أن يفعل عبثاً، بل كل فعله موافق للحكمة التامة، فبلاؤه لحكمة.
2- أن له تعالى في كل محنة منحة وفي كل بلية نعماء ينبغي أن تذكر فتشكر وتحمد وهذا هو سر اقتران التسبيح بالحمد هنا. وفي قوله (رَبِّكَ) إيذان بكمال التربية ومزيد العناية.
ولقد جاء الحديث واضحا : روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قَال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ". فالحديث يبين أن المؤمن الذي يخالط الناس، ويدعوهم إلى الخير، ويصبر على ما يناله من أذى في سبيل دعوتهم، وإيصال الخير إليهم خير من المؤمن الذي ينعزل عن الناس؛ لأن الأول صاحب نفع متعد، والثاني صاحب نفع خاص، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صورتين في هذا الحديث، وفضل الصورة التي فيها خلطة على الأخرى، مما يدل على أن الأصل في حياة المسلم أن يخالط، وأن يكون على حال يستطيع معه الصبرَ على أذاهم، فلا بد أن يُرَقِّي الإنسان نفسه حتى يكون قادراً على الاختلاط بالناس مع التحمل وعدم التأثر. ويقول ابن الوزير الصنعاني - رحمه الله-: "العزلة عبادة الضعفاء وصيد الشياطين"
ومواقف النبى r كلها تشير إلى أن صاحب الدعوة عليه أن يتحمل ويصبر ابتغاء مرضاة الله، كما جاء في سورة المدثر: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾. فالصبر الذي لا يكون باعثه وجه الله لا أجر فيه وليس بمحمود، وقد أثنى الله في كتابه على أولي الألباب الذين من أوصافهم ما ذكره بقوله ) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ( هذه الآية تشير إلى حقيقة هامة جداً وهي أن صبغة الأخلاق ربانية ، ليست أخلاقاً وضعية أو مادية فالعبد لا يفعلها تحت رقابة بشرية حين تغيب ينفلت منها، بل يفعلها كل حين وعلى كل حال لأن الرقابة ربانية، والباعث إرادة وجه الله تعالى. وهذا الصبر لانهاية له كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" متفق عليه ، فلا نهاية لصبرك إلا أن تلقى الله عز وجل فيأجرك على هذه الصبر ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
والصبر ، كما هو معلوم ، أبرز الأخلاق الوارد ذكرها في القرآن حتى لقد زادت مواضع ذكره فيه عن مائة موضع . وترجع عناية القرآن البالغة بالصبر إلى ماله من قيمة كبيرة في الحياتين الدنيا والأخرى، فلا نجاح في الدنيا ولا نصر ولا تمكين إلا بالصبر، ولا فلاح في الآخرة ولا فوز ولا نجاة إلا بالصبر:
وقلّ من جدّ في أمر يحاوله *** واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
وقال آخر:
لا تــيــأسن وإن طـــالــت مطـالـبـة *** إذا استعنت بصبر أو ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته *** ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
وإذا كان هذا شأن الصبر مع كل الناس، فأهل الإيمان أشد الناس حاجة إليه لأنهم يتعرضون للبلاء والأذى والفتن ((أّمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ))
يقول سيد قطب : "والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة. إنه طريق طويل شاق ، حافل بالعقبات والأشواك ……... الصبر على أشياء كثيرة : الصبر على شهوات النفس ورغائبها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم ، والتوائهم ، واستعجالهم للثمار! والصبر على وقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ،! والصبر على قلة الناصر ، وضعف المعين ، وطول الطريق ، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة ، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر ، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام!"
ولقد كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر: أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من شدة يجعل الله بعدها فرجاً وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله يقول في كتابه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
والمرء لا يحب ما يعكر عليه صفوه ، ولا يتمنى اللقاء ولا المواجهة ، ولكن أنى له هذا! فعن سالم أبي النضر مولى عُمَر بن عُبيدِ اللَّهِ وكان كاتباً له ، قال : كتب إليه عبدُ الله بن أبِي أوفَى " أنَّ رسول الله r في بعض أيَّامِهِ الَّتي لقيَ فيها العَدُو ، انتظر حتَّى مالتِ الشَّمْسُ ، ثمَّ قام في النَّاس ، فقال : " يا أيُّهَا النَّاسُ لا تَتمنوا لقاء العدُوّ ، وأسْألُوا اللَّهَ العَافيةَ فإذا لقِيتُمُوهم فاصْبِرُوا ، واعلَمُوا أنَّ الجنَّة تحتَ ظلالِ السُّيُوفِ " ثم قال : " اللَّهُمَّ مُنزلَ الكتابِ ، ومُجْرِي السَّحابِ ، وهازِمَ الأحْزابِ ، اهزمْهُمْ ، وانْصُرْنا عليْهِمْ "
فلم لا ندعوا الناس نصبر عليهم ؟! والصبر جعله الله جوادا لا يكبو وصارما لا ينبو وجندا لا يهزم ، وحصنا لا يهدم . فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، والعسر مع اليسر، والصبر أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد ، ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد .