مع استعادة الشعب المصري الكريم لحريته أخذت كثير من المساجد تستعيد حريتها، وبدأت تأخذ دورها الطبيعي والحقيقي، كمنارات تعليمية ومحاضن تربوية، وجعل الشباب يتنادون لحضور مجالس العلم والحرص على صلاة الجماعة، والاجتهاد في النوافل، والمشاركة في قيام الليل.
وفي هذا الصدد، وتشجيعًا على التعوُّد على قيام الليل، تنادَى بعض الشباب للتجمع في بعض الليالي وصلاة بعض النوافل في جماعة وذلك بما يعرف بالليالى الإيمانية أو الكتائب.
ومن ثَمَّ كثر السؤالُ عن مشروعية صلاة النوافل في جماعة
الأصل في النوافل- غير التراويح والعيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء- أن يصليها العبد منفردًا، وأن يصليها أو يصلي أكثرها في البيت، وقد كان هذا أكثر فعل النبي، صلى الله عليه وسلم.
لكنْ لا مانع شرعًا عند جمهور العلماء أن يصليها في جماعة، مثلما يحدث في قيام رمضان.
وقد سئل الإمام مالك، رحمه الله، عن الرجل يؤم الرجل في النافلة؟! فقال: ما أرى بذلك بأسًا (1)، وَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ الْقَوْمُ جَمَاعَةً النَّافِلَةَ فِي نَهَارٍ أَوْ لَيْلٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ النَّافِلَةَ بِأَهْلِ بَيْتِهِ وَغَيْرِهِمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ" (2).
ومن أدلة مشروعية ذلك:
ما أخرجه الشيخان من قصة مبيت ابن عباس رضي الله عنهما عند خالته ميمونة، رضي الله عنها، زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، وصلاته خلف النبي، صلى الله عليه وسلم، تلك الليلة (3)، وقد كان ذلك تطوعًا، كما جاء صريحًا في رواية عند مسلم عن عطاء بن أبي رباح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي مُتَطَوِّعًا مِنَ اللّيْلِ، فَقَامَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، إِلَى الْقِرْبَةِ، فَتَوَضَّأَ فَقَامَ فَصَلَّى، فَقُمْتُ لَمَّا رَأَيْتُهُ صَنَعَ ذَلِكَ، فَتَوَضَّأْتُ مِنَ الْقِرْبَةِ، ثُمَّ قُمْتُ إِلَى شِقِّهِ الأَيْسَرِ، فَأَخَذَ بِيَدِي مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ يَعْدِلُنِي كَذَلِكَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ إِلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ. قُلْتُ: أَفِي التَّطَوُّعِ كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ (4).
ومن أدلة ذلك:
ما أخرجه مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّى بِهَا في رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ"، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى" فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ (5).
ولئن قال قائل: إن ما فعله ابن عباس وربما أيضًا ما فعله حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما إنما يدل على جواز الدخول الفردي في الصلاة خلف مصلٍّ آخر من غير أن يقصد أيٌّ منهما الصلاة في جماعة قصدًا؛ فإن حديث أنس بن مالك التالي يدل على أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قصد الجماعة به وبآل بيته في النافلة، وذلك فيما أخرجه الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: "قُومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ" قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ (6).
ولا ريب أن ذلك كان في نافلة؛ إذ الفريضة كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يصليها جماعة في المسجد.
ويدل على أنه لم يكن يصلي بهم المكتوبة ما جاء في إحدى روايات مسلم قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُ، صلى الله عليه وسلم، عَلَيْنَا، وَمَا هُوَ إِلاَّ أَنَا وَأُمِّي وَأُمُّ حَرَامٍ خَالَتِي، فَقَالَ: "قُومُوا فَلأُصَلِّيَ بِكُمْ" فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاَةٍ، فَصَلَّى بِنَا.. الحديث (7).
ومن أدلة مشروعية ذلك:
ما أخرج البخاري عن عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّ، ثُمَّ أَحَد بَنِي سَالِمٍ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا، حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا. فَقَالَ: "أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّه" فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُ، صلى الله عليه وسلم، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: "أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟" فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِى أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّىَ فِيه، فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ، وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ.
قال الشافعي في (الأم) بعد أن روى حديثي ابن عباس وأنس وغيرهما: "فما حكيتُ من هذه الأحاديث يدل على الإمامة في النافلة ليلاً ونهارًا جائزة، وأنها كالإمامة في المكتوبة لا يختلفان" (8).
قال النووي في (المجموع) بعد أن ذكر جواز الجماعة في النافلة، ورفض القول بالكراهة: "وقد نص الشافعي- رحمه الله- في مختصري البويطي والربيع على أنه لا بأس بالجماعة في النافلة، ودليل جوازها جماعة أحاديث كثيرة في الصحيح" (9).
وقال العراقي في الفوائد المتعلقة بحديث عائشة في قيام النبي في رمضان: "الْخَامِسَةُ: فِيهِ جَوَازُ النَّافِلَةِ جَمَاعَةً، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِيَارُ فِيهَا الِانْفِرَادُ، إلَّا فِي نَوَافِلَ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الْعِيدُ وَالْكُسُوفُ وَالِاسْتِسْقَاءُ وَكَذَا التَّرَاوِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ إلَى اسْتِحْبَابِ الْجَمَاعَةِ فِي مُطْلَقِ النَّوَافِلِ" (10).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "والاجتماع على صلاة النفل أحيانًا مما تستحب فيه الجماعة إذا لم يتخذ راتبة، وكذا إذا كان لمصلحة؛ مثل أن لا يحسن أن يصلي وحده، أو لا ينشط وحده؛ فالجماعة أفضل إذا لم تُتخذ راتبةً، وفعلها في البيت أفضل؛ إلا لمصلحة راجحة" (11).
وجاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" في مادة (قيام الليل): "7- ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجوز التطوّع جماعةً وفرادى؛ لأنّ النّبي، صلى الله عليه وسلم، فعل الأمرين كليهما"، وخالف في ذلك بعض أهل العلم، فكرهوا صلاة النافلة في جماعة، قَالَ محمد بن الحسن: "وَلَا تُصَلَّى نَافِلَةٌ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا قِيَامَ رَمَضَانَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ" (12).
وجاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" في مادة (قيام الليل): "7- ونص الحنفية على كراهة الجماعة في التطوّع إذا كان على سبيل التداعي، بأن يقتدي أربعة بواحد".
وقال ابن أبي زمنين في التعليق على قول مالك بجواز صلاة النافلة في جماعة: "مُرَادُهُ: الْجَمْعُ الْقَلِيلُ خُفْيَةً كَثَلَاثَةٍ؛ لِئَلَّا يَظُنَّهُ الْعَامَّةُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَرَائِضِ" (13).
ولا أدري ما وجه التفريق بين الجمع القليل والجمع الكثير، وما وجه التقييد بكونها في خفية؟! ولعل مرد ذلك إلى خوف الرياء، أما التعليل بخوف ظن العوام أن ذلك من الفرائض فمردود عليه بأن من الواجب تعليم العامة الفرق بين النافلة والفريضة، خصوصًا وقد انتهى زمن التشريع بوفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن الميسور للغاية التنبيه على أن هذه الصلاة إنما هي نافلة، كيف وقد شاع لدى الأمة الاجتماع في قيام رمضان، وصار ذلك معلومًا للعامة والخاصة، من غير أن يقع في ظن أحد أنه من الفرائض، والله أعلم.
والأحاديث المذكورة من قبل حجةٌ على القائلين بالكراهة، ففيها التصريح بأن صلاة ابن عباس وحذيفة وعتبان بن مالك وصلاة أنس وأهل بيته خلف النبي، صلى الله عليه وسلم، كانت تطوعًا.
والصحيح رأي جمهور العلماء، وقد فعله كثير من الصحابة، رضي الله عنهم، منهم عمر، وابن مسعود، وابن الزبير، وغيرهم:
فعن عبد الله بن عتبة قال: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه، وهو يصلي في الْهَاجِرَةِ (وهي نصف النهار قبل الظهر أو بعده) تطوعًا- في رواية: فَوَجَدْتُهُ يُسَبِّحُ (أي يصلي نافلة)- فأقامني حذوه عَنْ يَمِينِهِ، فلم يزل كذلك حتى دخل يَرْفَأ مولاه فتأخرتُ، فصففنا خلف عمر رضي الله عنه (14).
وعن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، قال: دخلت مع أبي المسجد، والناس صفوف في صلاة الصبح، فخنَس دونهم، فأقامني عن يمينه، فصلى ركعتين، ثم لحق بالصف.
وعن هشام بن عروة، قال: رأيت عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، يؤمُّهم في المسجد الحرام بالنوافل، ووراءه شيوخ من أهل الفقه والصلاح، يرون أن ذلك حسن.
قال هشام: إن الإمام كان يؤمهم في المكتوبة، ثم يدخل الدار، فيسبح (أي يتنفَّل) ويسبحون بصلاته، وهو يؤمهم (15).
وبهذا كله يتبين مشروعية ما يفعله كثير من الإخوان من صلاة النوافل أو قيام الليل في جماعة، مع التنبيه على عدم اتخاذ ذلك عادةً راتبةً، والله أعلم.
---------
الحواشي:
(1) مختصر قيام رمضان لمحمد بن نصر المروزي ص26.
(2) المدونة الكبرى 1/97.
(3) انظر القصة برواياتها عند البخاري (117،138،183،697،726،728،859، 24،1198،4569،4570،4571، 5919،6215،6316،7452)، ومسلم (763/181: 193).
(4) أخرجه مسلم (763/192).
(5) أخرجه مسلم (203 / 772).
(6) أخرجه البخاري (380،727،860،871، 874، 1164)، ومسلم (457/266).
(7) أخرجه مسلم (660/268).
(8) الأم 1/196.
(9) المجموع 4/55.
(10) طرح التثريب 3/409.
(11) مختصر الفتاوى المصرية ص81.
(12) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 2/250.
(13) مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل.
(14) أخرجه مالك في كتاب: قصر الصلاة في السفر، (32)، وعبد الرزاق (3888-889).
(15) مختصر قيام رمضان ص25.