أساس الانطلاق والحركة وأداء الحقوق والواجبات هو صدق التوجه إلى الله تعالى ومتانة العلاقة والصلة معه سبحانه، فالله هو الموفق والهادي إلى كل خير.
ومهما حاول الإنسان أن يُعطي حق دينه ودعوته وهو ضعيف الصلة بالله فلن ينجح، وستبوء محاولاته بالفشل، ولن يُنتج في ميدان؛ ذلك أن فاقد الشيء لا يُعطيه، وماذا عساه أن يُعطي مَن فقد المدد بقطع الصلة مع الإله؟!
لذا فإن البيت إذا أراد أن ينجح في رسالته الدعوية، ويؤدي واجبات دعوته، كان عليه أن يُصبَغ بالربانية، وأن يُحقق فيها مراد الله بالالتزام بالطاعات، وهجر المعاصي والسيئات، وأن يُصبح البيت عامرًا بالإيمان، مطهَّرًا من رجس الشيطان، عامرًا بالصلاة والذكر والقرآن، تُحيط أكنافَهُ الملائكةُ، تسمع القرآن هنا، وتُحلِّق في حلق الذكر هناك.. موصولاً بالسماء، تحضره الملائكة، تشهد الخير والذكر، وتصعد بهما إلى السماء، تُخاطب به ذا الجلال والإكرام بحال أهل ذلك البيت.
ربانية الدعوة
وضرورة ربانية البيت تنطلق من ربانية الدعوة التي آمن بها الزوجان واتبعا فكرها، فربانية البيت مطلب يكتمل به صدق الانتماء للدعوة، يقول الإمام :
"أما أنها ربانية فلأن الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعًا أن يتعرف الناس إلى ربهم، وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانيةً كريمةً تسمو بأنفسهم عن جمود المادة الصمَّاء وجحودها إلى طُهر الإنسانية الفاضلة وجمالها، ونحن المسلمين نهتف من كل قلوبنا: "الله غايتنا"، فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكَّر الناس من جديد هذه الصلة التي تربطهم بالله- تبارك وتعالى- والتي نسوها فأنساهم الله أنفسهم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾ (البقرة)، وهذا في الحقيقة هو المفتاح الأول لمغاليق المشكلات الإنسانية التي أوصدها الجمود والمادية في وجوه البشر جميعًا، فلم يستطيعوا إلى حلِّها سبيلاً، وبغير هذا المفتاح فلا إصلاح"
التعاون على الإيمان
إذا كان الإيمان هو أول عدة الدعاة، فهكذا يجب أن تكون بيوتهم منبرًا من منابر الهدى والتقى، والبيت المسلم الصادق في انتمائه لدعوته متعاونٌ على الإيمان، يشدُّ بعضه أزر بعض، ويأخذ أفراده بعضهم بيد الآخر نحو الطاعة، في سباقٍ محمومٍ نحو الجنان.
فمن الصور الرائعة التي كانت بارزةً في بيوت سلفنا الصالح تلك الصور التي كانت تحكي التعاون بين الزوجَين في القيام ببعض العبادات، والتعاهد على أن يُعين بعضُهم بعضًا في أداء الفرائض والمستحبات، وما أحوج الدعاة أن يجعلوا من بيوتهم قبلةً للإيمان والهدى والتقى؛ لتكون مثالاً يُحتذَى في كل البيوت.
فهذا دعاءٌ بالرحمة من الرسول- صلى الله عليه وسلم- لزوجٍ متعاونٍ قام من الليل فأيقظ أهله "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ أهله" (رواه أحمد في مسنده:).
ويشجع النبي- صلى الله عليه وسلم- الأزواج على المزيد من التعاون في مجال الإيمان، فيقول صلى الله عليه وسلم: "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلَّيا أو صلى ركعتين جميعًا كُتبا من الذاكرين والذاكرات" (رواه أبو داود في سننه).. وقد يتكاسل الزوج وتخور عزيمته وتقل رغبته، فحينئذٍ يأتي دور الزوجة التي توقِظ زوجها للصلاة، فإن أبى نضحت في وجهه الماء.
فما أحوجنا نحن الدعاة أن نُحيي هذه الصور في بيوتنا، فنوثق بها صلتنا بربنا، ونقوّي بها إيماننا، ونُربِّي بها أنفسنا، فإن من الخطأ كل الخطأ أن تُقصَر العلاقة بين الزوجين داخل بيوتنا على شئون الدنيا ومتاعها، ومن النقص الذي لا يليق بنا- نحن الدعاة- ألا نتجاوز في أحاديثنا مع زوجاتنا شهوات البطن والفرج.
مرارة العذاب وحلاوة الإيمان
مما لا شك فيه أن إلزام الزوجين لنفسيهما الطاعة، وإقامة بيتهما على أساس الإيمان الكامل أمرٌ شاقٌّ وغايةٌ في الصعوبة في بداية الأمر بالطبع، ويحتاج من كل منهما الصبر الجميل؛ حتى يذوقا حلاوة الطاعة، ويلمسا لذة الإيمان في قلبيهما، فحينئذ سيهون في سبيل هذه اللذة الإيمانية كل صعب.. سُئل بلال- رضي الله عنه- عن سبب صبره على الإيمان مع شدَّة تعذيبه في رمضاء مكة الحارَّة، فقال قولته المشهورة: "مزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان فطغت حلاوة الإيمان".
لماذا ربانية البيت؟!
البيت هو المعسكر الدائم الذي لا تنقطع دروسه ومحاضراته، فهو معسكرٌ دائمٌ على مدار العام.. هذا المعسكر سينطلق منه الزوج داعيًا إلى الله، وتنطلق الزوجة معلمةً ومرشدةً، وسيتربَّى في هذا المعسكر الأبناء على حب الإسلام وحمل راية الدعوة من بعدهما، فإذا كان البيت مصبوغًا بصبغة غير الربانية، ونشأ أبناؤه على غير الإيمان الحقيقي فسينعكس ذلك بلا شكٍّ على تكوين أفراد ذلك البيت.. أبًا وأمًّا وأبناءً.
وحينئذ سيكون الانفصام بين واقع الدعاة ومتطلبات دعوتهم..
تخيل أبًا يستيقظ بعد طلوع الشمس ليصلي الصبح وقد بال الشيطان في أذنه..
تخيل أمًّا تسهر الليل أمام التلفاز وتستيقظ قبل الظهر..
تخيل أبناءً يَنشئون في بيت لا يعظم شعائر الله ولا حرماته.
تخيَّل أبناءً يسمعون الأذان ويرون أبويهما يؤخِّران الصلاة عن وقتها ويتكاسلان في أدائها..
تخيل بيتًا مسلمًا تلك سماته وصفاته، كيف يستطيع أن ينهض لحمل مشاكل الأمة والعمل على حلها..
ثم تخيل النتيجة لو أن ذلك المثال مكررٌ في أكثر من بيت!!بالتأكيد فإن ذلك سيكون سببًا حقيقيًّا في تأخير النصر.
كيف سيواجه الأب- وهو داعية- عامة الناس، ناصحًا، ومرشدًا، ومربيًا، وهو مقصِّرٌ في حق مولاه؟!
كيف سيطالبهم بإصلاح بيوتهم وإعمارها بطاعة الله وبيته عشَّش فيه الشيطان؟!
كيف ستواجه الأم- وهي داعيةٌ- صديقاتها أو تجلس معهم واعظةً ومعلمةً، وهي متكاسلةٌ عن طاعة ربها ولا تهتم بتربية أبنائها وتأديبهم؟!
هل من المعقول أن نجد زوجًا مسلمًا داعيةً صاحب رسالة وفكر، جُلُّ اهتمامه عند عودته للمنزل هل أعدَّت زوجته الطعام أم لا؟! هل اهتمَّت بنظافة المنزل وترتيبه؟! أما صلاتها لفرض ربها، وأداؤها لأذكارها وأورادها فلا يعنيه في شيء!!
وهل من المعقول أن نجد زوجةً وهي أخت مسلمة جلُّ اهتماماتها أعمالها المنزلية وزياراتها الخارجية وبحثها وراء كل جديد في الملبس والمأكل والمشرب..؟! أما استغلال الأوقات والاستفادة بها في أعمال الطاعات فهو أمرٌ ثانويٌّ حسب الرغبة والهوى!!
تخيل بيتًا هذا شأنه أنَّى له أن يُصبح نواةً في مجتمع مسلم منشود؟! أنَّى لبيت مثل هذا أن يُرَبِّي ويُخرج مجاهدين الأمة في أمس الحاجة إليهم؟! ولذلك نستطيع أن نقول إنه لن تكون هناك دعوةٌ ناجحةٌ وبيوت أصحابها خربة إيمانيًّا أو بعيدة الصلة بالله.. إن حاجة بيوتنا إلى الربانية لا غِنى لنا عنها إذا أردنا النهوض بمهماتنا وأداء واجباتنا.
ربانية البيت المسلم تجلب النصر
بيوت الدعاة هي أحرص البيوت على تحقيق النصر الذي يُعِزُّ الله به الإسلام والمسلمين، ويُذلُّ الشرك والمشركين، نصرًا تستعيد به الأمة كرامتها، وتستردُّ مقدساتها، ولن يكون هذا إلا بالربانية والعبودية الحقيقية لله تعالى، والبيوت حلقةٌ من حلقات المجتمع المسلم المنشود، فإن لم يستقِم ويصطلح مع الله فلن يتنزل النصر، فنصر الله عز وجل لن يتنزَّل إلا على أُناسٍ ربانيين، أحسنوا الصلة بالله تعالى، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)﴾ (الأنبياء).
ربانية البيت تحفظ الذرية
﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (9)﴾ (النساء)، فالتقوى والصلاح وحسن الصلة بالله هي الطريق الوحيد الذي أخبرنا المولى تعالى عنه ليتم حفظ الذرية.. قال سعيد بن المسيب لابنه: يا بني، لأزيدن في صلاتي من أجلك؛ رجاء أن أُحفظ فيك، وتلا هذه الآية ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ (الكهف: من الآية 82).
ربانية البيت تجلب السعادة على أهله
ويكمن سر الربانية في جلب السعادة لأفراد الأسرة وأبناء البيت في أن الربانية والصلة الوثيقة بالله تُصحح التصورات وتصوِّب المعتقدات، فالقلب الموصول بالله سعادته في قلبه، وقلبه موصول بالله، الدنيا لا تعنيه في شيء سوى الاستعداد للقاء محبوبه، بزرع الأعمال الصالحة؛ لذلك فهو لا يحزن إذا أدبرت ولا يفرح إن أقبلت.
ففي زماننا هذا ظن البعض أن السعادة تأتيهم من الخارج فانشغلوا بجمع المال، حتى ألهاهم ذلك عن ذكر الله، وعن أداء فرائض الله وعن أداء واجبات الدعوة، فأصبح الهمُّ هو قدرهم، والغم مصيرهم، فهم يتقلبون من شقاء إلى شقاء، تعلقت القلوب بالمال وجمعه، حتى صارت قلَّته غمًّا وقلقًا في الصدور.
تعلَّقت طموحاتهم بكماليات البيت وزينته، فأصبحت الدنيا هي شغلهم الشاغل.. الفرح فيها مرهون بجمع المزيد من المال، فصدق فيهم قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾ (طه).
أما أصحاب العقول الراجحة.. أصحاب البيوت السعيدة فقد انشغلوا بمولاهم، ولم يكن لهم مطلبٌ سوى رضاه، فاستحقوا الرضا من الله، ومنحهم السعادة في قلوبهم، وصدق فيهم قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾ (النحل).
كيف يصبح بيتي بيتًا ربانيًّا؟!
ولعل السؤال الذي سيفرض نفسه بعد ما تقدم من بيانٍ لضرورة صبغ البيت بالربانية ما هو طريقي إلى تحقيق ذلك؟! وما المنهج الذي إن اتبعته وسِرْتُ على نهجه وصل بي إلى الله وأنِستُ وأنِسَ أهلُ بيتي بالله؟!
وفي الحقيقة أن الطريق إلى الله سهلٌ ميسَّرٌ لمن صدق توجهه، وخلصت نيته، وقويت رغبته، وعلَت همَّته في الوصول إلى الله، وانتسب إلى ربه ومولاه؛ ليصير عبدًا ربانيًّا، بل وسيجد العون والمدَد من الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت:).
فما من عبد يمدُّ يده إلى الله تعالى إلا أخذ بيده وأعطاه المزيد، فإذا أقبل إلى الله مشيًا أقبل الله عليه هرولةً، والله أشد فرحًا بتوبة عبده وعودته إليه من أحدنا إذا فرَّت منه دابته وهي تحمل زادَه في صحراء جرداء، ثم ما لبث أن جاءته ففرح بها، فقال من شدة فرحه: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)﴾ (الليل)، وحتى يكون طريق البيت إلى الربانية سهلاً محبَّبًا إلى نفوس أفراده يجب ألا نُزحمه بالتكاليف التي قد تُصيبهم أو تبُثُّ في نفوسهم الإحباط واليأس أو الشعور بصعوبة الطريق إلى الله، فالتغيير الذي نريده ليس تغييرًا سطحيًّا، أو صبغةً باهتةً ضعيفةً نريد صبغ البيت بها سرعان ما تنتهي وتذهب أدراج الرياح بعد وقت قصير.
والتي تتأثر بموعظة فتمتنع عن مشاهدة التلفاز مثلاً، وبعد أن يذهب أثرُ هذه الموعظة سرعان ما تعود البيوت مرةً أخرى إلى سابق حالها، وعلى هذا قس في جميع ما نلحظه ونراه من مخالفة الواقع للواجب.
خطوات مقترحة لبناء الإيمان داخل البيت
1- بناء الخوف من الله في القلب.
(وأعمال البر والخير التي تبني الإيمان في القلب كثيرة، وهذا على سبيل المثال)
أولاً: الخوف من الله
فالخوف من الله هو الطريق الذي انتهجه الأنبياء والمرسلون لدعوة أقوامهم، فهو البداية الحقيقية لانتباهة القلب ويقظته.. يقول- صلى الله عليه وسلم-:"من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة" (صحيح،)، وهكذا بدأ الأنبياء يقول تعالى ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)﴾ (الأحقاف).
وهكذا فعل- صلى الله عليه وسلم- عندما أنزل الله تعالى ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (214)﴾ (الشعراء)؛ حيث صعد النبي- صلى الله عليه وسلم- على جبل الصفا فجعل ينادي: "يا بني فهر.. يا بني عدي"- لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ" قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا قال: "فإني نذير بين يدي عذاب شديد" (أخرجه البخاري ح 4770).
ثانيًا: بناء علاقة متينة مع القرآن
ولكي يصل البيت إلى الله ويُصبح بيتًا ربانيًّا عليه أن يستمسك بحبل الله الممدود بين السماء والأرض ألا وهو القرآن الكريم.. فالقرآن الكريم يُعتبر بحق من أفضل الوسائل التي تُفضي إلى زيادة الإيمان في القلب ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا﴾ (الأنفال: من الآية 2)، فالقرآن يُعتبر العلاج الحقيقي لكل أمراض القلوب، والكتاب الهادي ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57﴾ (يونس)، وهو الذي يبدد ظلمات المعصية ويستبدلها بنور الإيمان ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾ (المائدة)
ويقول الأستاذ سيد قطب- رحمه الله-:
الحياة في ظلال القرآن نعمة.. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها.. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه، والحمد لله لقد من
الله عليَّ بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمن ذقت فيها من نعمته ما لم أذق في حياتي، ذقت فيها هذه النعمة
التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه...
الطريقة العملية للاستفادة من المنهج القرآني داخل البيت:
(1) تدبر آياته: والتدبر ليس غاية في حد ذاته بل هو وسيلة للوصول إلى درجة التفاعل والتأثر بآياته ومواعظه حتى تتحرك مشاعرنا، وتستيقظ قلوبنا من غفوتها، وذلك من خلال تخصيص وقت محدد للقاء القرآن والجلوس معه، وعرض أنفسنا عليه، هذا الوقت يجب أن يكون الذهن فيه حاضرًا والخاطر غير مشغول، بعيدًا عن الضوضاء والتشويش والانشغال، ثم الحياة في ظل هذه القراءة، والاستماع لما نقرأ بعقل يقظ وقلب حي.
(2) جلسة عائلية مع أهل البيت لتدارس القرآن باستخراج الآيات التي حركت المشاعر، وأثرت في القلب، وتفاعلت معها الأحاسيس.
(3 ) تتبع معنى إيماني أثناء وردنا اليومي كأن أبحث بقلبي عن آيات تتحدث عن مظاهر حب الله لنا، أو رقابة الله علينا، أو الآثار المذكورة التي تعرفنا به سبحانه وبأسمائه وصفاته.
(4) عمل مجلات حائط داخل البيت لتشجيع الأطفال على إتباع نفس النهج في التعامل مع القرآن، ونُسميه بالموضوع الذي نريد أولادنا أن يتفاعلوا معه. كأن نُسمي المجلة (الله الرقيب) ويُطلب من الأبناء البحث أثناء قراءة الورد عن الآيات الدالة على رقابة الله لنا وتسجيلها باسمه في المجلة.
توضيح: تكرر فيما سبق كلمة البحث أثناء القراءة ونود لفت الانتباه أن ذلك اتخذناه وسيلة لتحقيق التدبر الذي يحمل القارئ إلى التفاعل مع الآيات وليس بحث عقلي فقط لا يتأثر به القلب.
(5) استخراج الأوامر من الآيات والنواهي التي تقابلنا أثناء التلاوة وتحويلها إلى واجبات عملية نتواصى داخل البيت بتنفيذها، مع الوضع في الاعتبار أن تدبر القرآن والتأثر بآياته والتفاعل معها سيكون من أقوى الدوافع التي تعيننا على تنفيذ تلك الواجبات العملية، لما يحدثه القرآن من زيادة للإيمان في القلب ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى﴾ (الأنفال: من الآية 2)
ثالثًا: قيام الليل
وقيام الليل من وسائل إحياء القلب، وإيقاظ المشاعر فيه، وعلى هذا دلنا الحبيب صلى الله عليه وسلم "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" (صحيح أخرجه الترمذي).
فقيام الليل من المعينات الكبرى على أداء التكاليف الأخرى ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)﴾ (المزمل) فمن استطاع مكابدة الصوراف والشواغل عن الوقوف بين يدي الله حسنت صلته به، وقويت علاقته معه.
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله:
"إن قيام الليل والناس نيام والانقطاع عن غبش الحياة اليومية، والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه، والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما يتنزل من الملأ الأعلى، وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي.. إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل والعبء الباهظ، والجهد المرير، الذي ينتظر الرسول- صلى الله عليه وسلم- وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير" (في ظلال القرآن 6/3745).
رابعًا: الإنفاق في سبيل الله
وعلاقة الإنفاق في سبيل الله بزيادة الإيمان علاقة وثيقة، وتُسهم إسهامًا مباشرًا في إحياء القلب وتحريك المشاعر، وتزكية النفس وتطهيرها، وهذا ما نص عليه قوله تعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ (التوبة: من الآية 103)
وبيوت الدعاة هي أكثر البيوت التي تحتاج إلى ذلك الخلق العظيم، فهي تنفق في مصارف الخير المختلفة، وتُخلِّص نفسها من الشح والبخل، وجواذب الأرض، فالشح مفتاح كل شر، ومن شأنه أن يجعل الفرد أكثر تعلقًا بالدنيا وحرصًا عليها..
والإنفاق يؤدي إلى تيسير الأمور ومعيته سبحانه ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)﴾ (الليل).
والبر والتقوى والقرب من الله لن ينالهم أحد بخل بماله، وحرص عليه.. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
والبخل والشح بالمال عقبة في طريق صاحبه للسير إلى الله والانتساب إليه يقول تعالى ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)﴾ (البلد) فالعقبة الحقيقية أمام الراغب في الهداية والتي عليه أن يقتحمها هي تخلصه
من الشح والحرص على المال.