اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوا
(1)
لا يخفى على أحد ما يُحاك وما يُدبر هذه الأيام لدعوتنا ، دعوة الخير والرشاد ، دعوة الإخوان المسلمين ، وهو أمر ليس بالغريب على أصحاب الدعوات الصادقين الصابرين المجاهدين ، ونحن مع إدراكنا التام أن دعوتنا في النهاية منصورة بأمر ربها ، وأننا ستار للقُدرة حتى نأخذ الأُجرة ، فنحن نبذل الجهد ونُرِىَ الله من أنفسنا خيرا حتى نرضى ربنا أولا ونقيم حجة التبليغ وأداء الواجب على الناس جميعا ثانيا ، وخاصة في هذه الأوقات حتى لا نشمت فينا خصما ولا جهولا ، فكما قال الشافعي :
دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَاءُ * وَطِبْ نَفْسَاً إِذَا حَكَمَ القَضَاءُ
وَلاَ تَجْزَعْ لِحَادِثَةِ اللَّيَالِي * فَمَا لِحَوادِثِ الدُّنْيَا بَقَاءُ
وََكُنْ رجُلاً عَلَى الأَهْوَالِ جَلْداً * وَشِيمَتُكَ السَّمَاحَةُ وَالوَفَاءُ
وَلاَ تُرِ لِلأَعادِي قَطٌّ ذُلاًّ * فَإِنَّ شَمَاتَةَ الأَعْدَاء بَلاّءٌ
وَلاَ تَرْجُ السَّمَاحَةَ مِنْ بَخِيلٍ * فَمَا فِي النَّارِ لِلظَّمْآنِ مَاءُ
وَلاَ حُزْنٌ يَدُومُ وَلاَ سُرُورٌ * وَلاَ بُؤْسٌ عَلَيْكَ وَلاَ رَخَاءُ
نعم نحن نؤمن أن كل شيء بقضاء الله وتدبيره وأن لهذا الكون إلها يدبر أمره ، ولكننا نأخذ بأسباب النصر والتمكين ولا نبالي بوعد ولا وعيد ، ولا إغراء ولا تهديد بل شعارنا " فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" . نعم ننطلق ونحن نضع أمام أعيننا هذا النموذج الكريم الذي أرسى قواعده وأسسه نبي الله موسى عليه السلام والذي كان شعاره " وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى". أقول نقتدي به حين أحاط به الطغاة الظالمون من كل واد سحيق وفج عميق ، فأرغدوا وأزبدوا وهددوا وتوعدوا ، وتآمروا ومكروا قائلين " سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ " . فما ذا كان موقفه وحاله :" اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" وهذا هوا منطلقنا وذاك طريقنا " اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ "
وللاستعانة بالله والصبر على الطريق صور كثيرة ومتعددة وجوانب متنوعة تحتاج إلى دراسات وبرامج فيما بعد، ولكننا نريد في هذه الرسالة أن نأخذ جانبا – نراه هاما – يتناسب مع طبيعة المرحلة وحالنا يقتضى التنبيه إليه والوقوف عليه وهو خلق الحذر ، وهو من سبل الاستعانة بالله ، ومسلك من مسالك الصابرين كما سينجلي فيما بعد . ولكننا نود الإشارة إلى أن لفظ "الحذر" ورد في القراّن الكريم بتصاريف الكلمة المختلفة إحدى وعشرين مرة ، كما أنه إحدى" نداءات الرحمن لأهل الإيمان" الثمانية والثمانين التي وردت في القراّن الكريم . وهذا بلا شك يبرز أهمية الحذر كخلق فردى ، وقيمة تربوية علينا أن نتربى عليها حتى يكون سلوكا وديدنا طبيعيا في حياتنا نعبد به ربنا سبحانه ونتقرب إليه.
ولنا مع الحذر هذه النظرات:
سنة شرعية
- نعم إن الحذر سنة شرعية ، أي أن الذي يفرط فيها داخل في دائرة التأثيم , ومفرط في أسباب النصر والتمكين، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً }النساء71 وقال : (وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) النساء : 102
- ومن نظر وتأمل وجد أن هناك الكثير من آيات القراّن الكريم تشير لهذا المعنى . فالله سبحانه يقول في شأن موسى عليه السلام : ({وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا }[القصص : 15]، وفي شأن إبراهيم عليه السلام : ({قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ *قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ } الأنبياء62 63/ } , وفي شأن أم موسى : ({وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }القصص11) ، وفي شأن أصحاب الكهف : (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) [الكهف : 19]، وفي شأن بعض أتباع موسى : (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) غافر : 28.
وقد قال الله جل وعلا في شأن الأنبياء : (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : 90 .
- ومن يتدبر سيرة الرسول?صلى الله عليه وسلم يجد الحضور المتميز لجانب الحذر في عمله لهذا الدين. . . فتأمل الاحتياطات التي اتًّخِذَت في مكة، وتأمل الدروس الأمنية المستخرجة من الهجرة . وانظر إليه صلى الله عليه وسلم ، حيث كان من حاله أنه ( لا يريد غزوة إلا وَرَّى بغيرها ) [الحديث]. . . الخ، وقال ابن القيم في قوله تعالى : (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) : ( فإن هذا الضمان له من ربه تبارك وتعالى لا يناقض احتراسه من الناس ولا ينافيه، كما أن إخبار الله سبحانه له بأنه يظهر دينه على الدين كله ويعليه لا يناقض أمره بالقتال وإعداد العدة والقوة ورباط الخيل والأخذ بالجد والحذر والاحتراس من عدوه ومحاربته بأنواع الحرب والتورية ) [زاد المعاد : 3/480.
ونظرا لصدق التلقي وصفاء اللقاء وإخلاص القصد، تمكن الفهم العميق لهذا الجانب من نفوس الصحابة رضي الله عنهم فترجموه إلى واقع عملي نموذجي، فهذا أنس بن مالك وهو غلام يقول : ( فبعثني –أي رسول الله-في حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جاءت قالت : ما حبسك؟ فقلت بعثني رسول الله لحاجة، قالت : ما حاجته؟ قلت : إنها سر ).
وهذا العباس يقول لابنه عبد الله : ( إني أرى هذا الرجل [يعني عمر بن الخطاب] يقدمك على الأشياخ [يعني كبار الصحابة]، فاحفظ عني خمسا : لا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا يجربن عليك كذبا، ولا تعصين له أمرا، ولا يطلعن منك على خيانة ).
سنة كونية
-كما أن الحذر سنة كونية ، أُمِرْنا باعتبارها بل وتسخيرها لخدمة الحق الذي نؤمن به، فـعن أبي هريرة ( الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها .) [الترمذي , وابن ماجه ]، وقد ضاعت جهود كثير من العاملين ولا زالت نتيجة التفريط الكبير في هذه السنة، فإن غياب هذا الجانب – وعيا وممارسة – أدى إلى ضياع الفرص، وفوات بعض من أعمال الدعوة والجهاد ،وبعثرة الجهود، وتأخير تحقق الأهداف و . . . الخ، ( (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ )الحشر2).
أفلم يأن لنا أن نستحضر هذا الجانب ونعتبره عند التخطيط والتنفيذ لكل عمل. . . ؟!!، ليس جًبْنا ولا خوفا من اللقاء، لا والله- فنحن على استعداد للتضحية بما نملك وما نستطيع نصرة لهذا الدين- ولكن الهدف كبير والآمال عريضة، ولله في كونه سنن سيَّرَ بمقتضاها هذه الحياة ، ومن الكلمات الخالدة لقائد نهضتنا ، ورائد البعث الحضاري لأمتنا، الإمام الشهيد حسن البنا: "ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد". (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) [فاطر : 43.
أسس ومنطلقات
أولا : الربانية :
- ونقصد بالربانية انضباط سلوك المسلم– الظاهر والباطن - وفق مقتضى شرع ربه جل وعلا ، قال تعالى : (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران : 79] ، لأن ربانية المسلم تعني طاعته لله جل وعلا، وهذه الطاعة هي سر النصر والأمن قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) النساء
- وربانية المسلم توجب ولاية الله جل وعلا له، ومن تولاه الله جل وعلا حفظه من شر أعداءه، فإنه سبحانه هو القائل : (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يوسف :، والقائل : (قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) الأعراف، والقائل : (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف
- وما الهزائم والإخفاقات التي تتوالى على المسلمين إلا بما كسبت أيديهم من المعاصي، قال سبحانه : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) آل عمران، وقال : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) الشوى
فلا نهوض للعمل الإسلامي إلا بعودة صادقة إلى الله جل وعلا ،عودة تتحقق بها معاني الربانية الحقة.
وأهم ما يجب الاهتمام به في هذا الباب هو:
1- ترسيخ معاني العقيدة في نفوسنا وأهمها:
أ- عقيدة الاستعلاء الإيماني : الذي يجعلك تستشعر دائما عزة الإيمان لاعزة الطغيان , والذي يمنح صاحب الرسالة الإرادة ويحميه من الوهن والضعف أمام مكر الماكرين وكيدهم، قال سبحانه : (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران .
ب- وعقيدة الإيمان بالقدر : الذي يمنح المسلم القدرة على الموقف الإيجابي في لحظات الشدة والابتلاء، قال سبحانه : (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران . ومن ثم فإن صاحب الدعوة لا ينشغل كثيرا بتفسير أسباب الابتلاء لهذا أو لذاك ، اللهم إلا من باب الاستفادة من الحدث وتجنب أوجه القصور إن وُجِدت.
إن استقرار هذه المعاني – وأمثالها- في نفوس أصحاب الدعوات وحاملي رسالة الخير والنور لأمتهم يمثل صمام الأمان من الحرب النفسية التي يقوم بها خصوم الدعوة، ومفتاح الحفظ الرباني للعمل الإسلامي.
2- التجسيد العملي للأخلاق وأهمها:
أ- خلق كتم الأسرار : فعن أنس بن مالك قال : ( أسرَّ إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم سرّا فما أخبرت به أحدا بعده ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به ) [مسلم]، وقال صلى الله عليه وسلم : (إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ " . أبو داود في سننه والترمذي . وهذا خلق لو علمت عظيم، فأين نحن منه؟ كيف هو حالنا في خلوتنا مع غيرنا وحتى مع إخواننا
وأزواجنا؟ هل نخبرهم بما لايعنيهم ولا يفيدهم!!!
ب- وخلق الوفاء بالعهد : قال سبحانه : (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) الإسراء : 34
وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أربع من كن فيه فهو منافق خالص ، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر .) مسلم ، فكثير من الأمور التي لاتُحْمد عُقباها تترتب على عدم انضباطنا في مواعيدنا تغيُّبًا أو تأَخُّرًا أو استفسارًا أو استئذانا ونحوه.
ج - وخلق ترك ما لايعنيه: فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه ) [الترمذي]، فلماذا نحرص على معرفة ما لا يعنينا في عملنا وحركتنا ؟! لماذا يحاول البعض بصورة أو بأخرى استدراج الغير ليقول مالم يُرِِد أن يقوله؟!وما الفائدة من ذلك؟
د - وخلق ترك كثرة الكلام : فقد قال صلى الله عليه وسلم : (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع ) [مسلم]،
- وإنك لو تأملت الكثير من المشاكل التي يتعرض لها العمل الدعوى اليوم نتيجة تتبع خصوم الدعوة لحركة الدعاة , لوجدت أن إفشاء الأسرار تصريحا وتلويحا، وقصدا وتهاونا، واجتهاد المرء في تتبع ما لا يعنيه من المعلومات، واحتراف الثرثرة. . . الخ تلك القائمة من الأخلاق المذمومة والتي هي من أهم الأسباب التي ليس بمثلها يتنزل النصر.
(وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران : 79]
ثانيا : اليقظة:
لأن اليقظة سبب في تحقيق الأمن شرعا وقدرا، قال الله جل وعلا : (وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ) [النساء :
وأهم ما يحقق هذا الأساس ما يلي:
1- الانتباه الدائم : ونعني بالانتباه ترك الغفلة واستصحاب اليقظة، وأن لا يكون الداعية سبهللا لا يدري ما يدور حوله ولا ما يحاك ضده، قال عمر رضي الله عنه : ( لست بالخب، ولا الخب يخدعني )، فلسنا مخادعين ولا ماكرين، ولكن المؤمن كيس فطن، و ( لا يلدغ المؤمن من الجحر مرتين ) [البخاري[.
2- الكلمة المسئولة : قال سبحانه : (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : 18]، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) }البخاري] ،وما على الأرض شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان.
- ومن هذه المسؤولية : ترك التداول العفوي والمجاني للمعلومات والتباهي بها ، فما كل ما يعلم يقال، وماكل ما يقال قد حضر أهله، ولا كل ما حضر أهله قد حان وقته، قال صلى الله عليه وسلم : ( وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ) [الترمذي[.
3- لطافة الحركة : ونقصد بها الحركة التي لا تحدث ضجة، ولا تثير غبارا، ولا تترك أثرا، قال جل وعلا :( وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) [الكهف : 19]،
- ومن لطافة الحركة : كسر روتينها، واعتماد السرية واستعمال التورية فيها، قال جل وعلا : (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) [النمل : 88 [ فهل كنا كالجبال في لطافة حركتها!!!
4- تناسب المظهر : قال ابن تيمية رحمه الله : ( وسبب ذلك [أي عدم المخالفة في الهدي الظاهر] : أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار. فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك. . . وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة لهم تختلف باختلاف الزمان والمكان ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا ) [الاقتضاء : 1/418].
وليس المقصود التأصيل، ولكن تأمل، واسأل العاملين ، وأنت أحدهم ( وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) [فاطر[. ،فالأحداث كلها تُنْبِئك بأهمية الاهتمام بهذا الجانب ، فكما أن لكل مقام مقال فلكل تِرحال زى وحال .
ثالثا : البصيرة:
ونقصد بها : أن نبصر ونعلم وسائل المتربصين بالدعوة ،وأساليب كيدهم ومكرهم بها، فإن الله تعالى يقول : (وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام : 55، حيث أن الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل قائم لا ينكره إلا جاهل أو مجادل، والأصل أن كل واحد يعمل لما ينتمي إليه، (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ) [الأنعام : 135]
وتتحقق هذه البصيرة بأمور كثيرة أهمها:
1- الوعي بالسنن الكونية : أي المعرفة الجيدة بالتقدم التكنولوجي خاصة ما يتعلق باستخدام التقنيات الحديثة كالتليفون المحمول والإنترنت ، وأجهزة الاتصال الأخرى وأدوات الرصد والتصنت وغيرها و. . . الخ. فإنما هي سنن مسخرة.
2- استبانه وسائل المكر بدعوتنا : فتتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في بذل الجهد لمعرفة الأحداث عن قرب، وقصته صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مع الأعرابي يوم بدر معروفة، وما طلبه من حذيفة بن اليمان يوم الأحزاب غير خاف على من يهتم بسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم.
3- الانسحاب من المعارك الثانوية: فلا ننشغل بسفا سف الخصوم ولا بتغاريد الإعلام ،ولا بفضول العوام، فنُسْتَنْطق بما لا نريد أن نقوله , فلا نضيع وقتنا وجهدنا في الرد على كل كلمة كيد تقال ، حتى لانجد أنفسنا قد حِدْنا ولو قليلا عن طريقنا ، وبعثرنا جهودنا ، وانصرفنا عن مهامنا .
رابعا : الانضباط:
- ونقصد به الانضباط التنظيمي والذي يعنى : كمال الطاعة للقيادة ، وذلك يكون باستئذانها فيما ينبغي أن يفعل، وكيف، ومتى، وبالتنفيذ الدقيق لأوامرها ، قال سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) [النساء : 59]
- فالمسلم الذي انطبعت في نفسه هذه المعاني، وتجسدت بصدق في سلوكه واقعا عمليا يجنب نفسه وغيره ويلات السلوكيات الفردية والتقدير الشخصي للمواقف، لأن الانضباط تحقيق لمراد الله جل وعلا، وقد قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) [النساء : 66]. كما أنه يستجيب لرأي من هم الأكثر علما بالمعطيات والأقدر على معرفة المآلات، وقد قال تعالى : (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)
وأهم ما يتحقق به الانضباط التنظيمي هو :
1- إدراك علاقة التأمين بالانضباط : ونقصد به تعميق الوعي والإدراك الواعي للعلاقة الوطيدة بين الانضباط التنظيمي وتأمين العمل ، و في أحداث معركة أحد خير دليل على ذلك. فهل كانت لنا وقفة ذاتيه مع أنفسنا في بيوتنا ووقفة عند حركتنا حتى نحقق بصدق الولاء والانتماء لدعوتنا؟
2- ترسيخ خلق الاستئذان : ونقصد به الاعتياد على أخذ رأي القيادة قبل الإقدام على العمل، واجتناب التقدير الشخصي للموافق، قال سبحانه : (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [النور : 62[.
3- الاعتراف بالخطأ : وذلك بالإسراع إلى الإخبار عن الأخطاء - إن حدثت - لتتجنب الدعوة آثارها السلبية . حتى ولو ترتب على ذلك تأجيل العمل قليلا أو تغيير آلياته المقررة.
4- حسن التعامل مع المعلومات: أي ما يذاع منها وما لا يذاع، وكيف؟ ومتى؟ وذلك لا يتحقق إلا بالالتزام بضوابط الجماعة ، فنحن نتخلق بخلق الحذر نعم ، ولكن لا نصاب بالهواجس (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء83[.
وأخيرا نقول....
* أن الحذر يقتضى منا استعانة بالله أولا ثم أخذ بالأسباب ثانيا .
* كما أنه يتطلب بذل الجهد ، واستفراغ ما في الوسع حتى يتحقق المرجو من أهدافنا ، ولكن مع الأخذ في الاعتبار أن إرادة الله غلابة فقد توجد الأسباب ولا تتحقق النتائج والعكس ، ولكن الحساب والسؤال بين يدي الله سبحانه يكون على التعامل مع الأسباب والاستفادة من السنن المتاحة ، فإن جاء الأمر على خلاف مانرجوا صبرنا ولنا الأجر.
* أن هذا النوع من السلوك يتطلب مستوى معين من الوعي التنظيمي والتربية الإيمانية والثقافة الكونية.
* أن السذاجة والغفلة والبساطة والاسترخاء لا يمكن أن تبني مجدا إسلاميا ولا أن ترجع العز المسلوب ، ولنعلم أنه من يصدق الله يصدقه.
* أن الإدراك الجيد لهذه الأسس - جميعها - والوعي العميق بدلالاتها يدفع القائمين على العمل في كل موقع إلى إيجاد الصيغ والضوابط الكفيلة بتأمين عملهم، ولابد لهذه الصيغ والضوابط من أن تراعي طبيعة المنهج الذي نحمله، وطبيعة المرحلة التي نمر بها، وطبيعة البيئة التي نعمل فيها،. . . الخ،
*أن أخذ الحذر وعي وسلوك يمكن صاحب الدعوة من بلوغ أهدافه وحفظ مكتسباته، وليس هاجسا يُغرس في نفوس العاملين تحت لواء هذه الدعوة المباركة ليقعدوا عن العمل لهذا الدين، ولذلك لابد من إيجاد التوازن الدقيق بين أخذ الحذر والعمل، وذلك بعدم ترك العمل والركون إلى القعود مهما قست الظروف وغلت التضحيات، وإنما يكون الموقف الصحيح بتكييف العمل مع المعطيات الجديدة، تكييفا يحمل في طياته معاني الشجاعة والثبات إضافة إلى معاني الوعي والذكاء، مستحضرين قوله تعالى : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران : 173]. وهذا الجمع المتوازن بين الحذر والعمل هو المعنى المشار إليه في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً)
والكلام طويل والعمر قصير والمقام لا يتسع، والمقصود الإشارة التي تكفي اللبيب.
وللحديث بقية إن شاء الله......
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى اّله وصحبه وسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق