إن المتابع هذه الأيام للآثار المترتبة على زلزال مباراة مصر والجزائر يشعر بالمرارة والغصة في الحلق لما آل إليه حالنا ووصل إليه تفكيرنا
وما بفزع حقاً هو غياب صوت العقل ، واهتمام الشعبين المصري والجزائري وترقبهم بشغف شديد لكل ما يتصل بالمباراة ومتابعتهم للحرب الإعلامية حامية الوطيس الدائرة رحاها عبر الأثير أو عبر الصحف،.. حتى نسينا أننا شيعنا عشرات المصريين إلى مثواهم الأخير من قبل بسبب واحد من حوادث القطارات البشعة التي لا زلنا نتعرض لها إلى الآن .. صار جل اهتمامنا وحلم حياتنا وأملنا في الدنيا -ونحن فى عشر ذي الحجة- نتيجة مباراة كرة قدم ونسينا أن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها!
والحقيقة أن ما يحدث في كلا البلدين يعبر عما وصلنا إليه في العالم العربي من تهافت وتضاؤل في الطموحات ومحدودية في النظرة إلى المستقبل حتى صارت أقصى أمانينا في مصر والجزائر أن نصعد إلى كأس العالم لا أن تتحول مصر إلى قوة نووية ، أو أن يولد في الجزائر واحد كفيلسوف الإسلام مالك بن نبي، بل أصبح المصريون والجزائريون يعاير كل منهم الآخر بما قدمه بلده لبلد الأخر، علما بأن أغلب المتحدثين والمعايرين لا يعلمون عن تاريخ بلادهم شيئاً وربما لم يفتحوا كتاباً غير كتب الحفظ المعروفة باسم كتب المنهج الدراسي، فضلاً عن أن يعلموا شيئاً عن تاريخ البلاد المجاورة!! .. وهي آفة في العالم العربي .. فالكل لا بد وأن يتكلم حتى وإن كان أجهل من دابة والكل لا بد أن يدلي بدلوه والكل لا بد وأن يشارك في المهزلة وإلا اعتبر غير وطني ولا يهتم بأمر بلاده ومنتخبها الذي لا يقل في الأهمية عن جيش بلاده !! نعم وصلنا إلى هذا المستوى وهذا الحضيض للأسف..
والمتابع للفضائيات المصرية أو الجزائرية بعد المباراة يجد الجميع يهرولون في الشوارع حاملين أعلام بلادهم وقد انتفخت العروق واحمرت الأعين وتحشرجت الأصوات .. فتساءلت: هل لو كانت شعوب العالم العربي قد فعلت ذلك وقت أن أعلنت أمريكا اعتزامها غزو العراق .. دار السلام وحاضرة خلافة المسلمين قديماً وعاصمة الثقافة والعلوم في العالم وقت هارون الرشيد.. هل لو كان العرب قد خرجوا بهذا الشكل المكثف تجمعهم مشاعر واحدة وأفكار واحدة ومخاوف واحدة، هل كانت أمريكا لتجرؤ على أن تفعل ما فعلته؟ أم أنها كانت ستضحي بأمن وسلامة مواطنيها في هذه البلاد وعلاقاتها السياسية والاقتصادية معها في سبيل تنفيذ هذا المخطط الشرير؟
ولو فعلت الشعوب ذلك أثناء العدوان الإجرامي على غزة هل كانت إسرائيل ستفعل مافعلت؟!!
وإذا ما انتقلنا إلى المستوى الرسمي في دول العالم العربي، أولم تكن مصر والجزائر بقادرتين على احتواء الموقف ومنع التجاوزات ؟ أم أن الأمر لا يستلزم ذلك ؟!
أما إذا خرجت الشعوب تنديداً بحصار غزة ومحاولة مد يد العون إلى أهلها أو التظاهر للضغط على الحكام لاتخاذ موقف قوي موحد تجاه محاولات هدم المسجد الأقصى ... أو حتى لوقف التعذيب والقمع .. فساعتها تخرج قطعان الأمن المركزي وفرق الكاراتيه بالملابس المدنية وتظهر هراواتها للعيان ليختنق المتظاهرون بالغازات المسيلة للدموع وتنتهك أعراض النساء في الشوارع .. لا لشيء إلا لأن الشعب خرج عن المسار المخطط له .. فأنت ما عليك إلا أن تعمل وتأكل وتشرب -إن توافرا لك أولاً وبشكل صحي ثانياً- وتنجب وتحفظ بعض الكلمات تحشوها حشوا في رأسك لتصبها في ورقة الامتحان وتحصل على شهادة يفترض أنها علمية لا قيمة لها ولا تعترف بها أي دولة في العالم ولا تساوي أكثر من وضع اجتماعي حين تتقدم للزواج !!
لا أستطيع ألا أتخيل شكل سياسيينا العتاة - بأعوامهم التي تخطت الثمانين وهم لا زالوا في مناصبهم - إلا وهم يضحكون ملء الأشداق على تفاهة شعوبهم ومحدودية طموحاتهم ومدى ما يمكن أن يشغل بالهم من أحداث وأمور حيث تحركهم مباراة كرة قدم سيفوز فيها الفائز والمهزوم من الفريقين بعدة ملايين من الجنيهات إضافة إلى هدايا رجال النفط العربي وبعض السيارات والشقق والفيلات في مارينا وما حولها .. ولا ينالنا منها إلا ارتفاع ضغط الدم والمشاحنات والمعارك
نعم من حق هؤلاء أن يستمروا في مناصبهم وأن يظلوا فيها إلى الأبد طالما أننا لم نلتفت إلى ارتفاع أسعار كافة السلع الغذائية الأساسية بمقدار 20% قبل دخول عيد الأضحى المبارك ووصول سعر كيلو اللحم إلى 50 جنيها .. بل إن المواطن سيذهب لشراء اللحم بهذا السعر وهو في غاية السعادة ويبتسم للجزار (الجزار صفة وعملاً) .. فالمهم أن مصر فازت على الجزائر واقتربت من كأس العالم يا جماعة .. أي شرف وأي فخر يداني هذا الأمر !!
وبالتالي فلا مجال هنا للحديث عن سياسات يتم وضعها (من أجلك أنت) ولا توريث ولا حوادث قطارات ولا مزروعات أكلناها مخلوطة بالمخلفات البشرية ولا انتخابات سيتم تزويرها مجدداً ومجدداً ومجدداً ولا.. ولا.. ولا.. ولا.. فكل هذه أمور هامشية نتكلم فيها (إن خطرت على بالنا من الأصل) فيما بعد .. المهم هو مباراة مصر والجزائر وأن نصل إلى كأس العالم .. ولا حول ولا قوة إلا بالله
- هل تعلم أن إسرائيل قامت مؤخراً بطباعة دليل سياحي عليه بعض المناطق المصرية في سيناء كأحد المزارات السياحية الإسرائيلية؟
- هل تعلم أن هناك عشرات المرشدين السياحيين الأجانب يعملون في مصر بعلم وزارة السياحة ويؤكدون للسياح أن اليهود هم بناة الأهرام وأن مصر انهزمت في حرب 1973 والتي لم تكن إلا تمثيلية تمت بين القوى العظمى واشتركت مصر وإسرائيل في تنفيذ السيناريو والذي كان لابد من وجود خسائر محسوبة لتنفيذه؟
- هل تعلم أن ميزانية البحث العلمي في مصر 2 في الألف أي حوالي ثلاثة ملايين دولار سنويا -وربما كان أقل في دولة لا يمكنك أن تتأكد فيها من رقم تعلنه الحكومة!- في حين أن إسرائيل تنفق ما يقارب مائتي مليون دولار سنويا على الغرض ذاته؟
- هل تعلم أن العالم العربي بأكلمه ينتج أوراقاً وأبحاثاً علمية لا تكاد تصل إلى عشر ما تنتجه إسرائيل وحدها في عام ؟
- هل تعلم أن تصنيف أفضل 500 جامعة على مستوى العالم يخلو من أي جامعة عربية وأن إسرائيل لها أكثر من جامعة في التصنيف؟
- أنا لا أقلل من أهمية المباراة ولا اتهم أحداً بشيء .. ولكن أحزنني أن تتدنى طموحاتنا وتتضاءل أحلامنا هنا وهناك حتى تنحصر في مباراة كرة قدم .. والأسوأ أن تؤثر النتيجة على علاقتنا بدولة عربية وعلى أداءنا في العمل أو الدراسة أو حتى على علاقاتنا الأسرية والاجتماعية فيزيد عبوس المصريين أكثر مما هو عليه وتزداد العصبية ويكثر سماع الشتائم والألفاظ القبيحة التي كدنا نعتاد سماعها صباح مساء ..
فهل هذا يعقل يا أصحاب العقول؟
----
ثم إنني أقول للثائرين – بالكلام طبعا – على كرامة المصريين الذين أهينوا في الجزائر : ضعوا أيديكم على أي مكان في خريطة العالم العربي لن تجد دولة عربية لم يهن فيها مصري! تحدث مع أي مصري يقيم في دولة عربية ليقص عليك روايات بشعة لتجازوات لا ترضاها جيبوتي لمواطنها، سواءً من مواطني هذه الدول العاديين أو من رجال شرطتها أو من أصحاب العمل الذين يعاملون المصريين كأنهم عبيد اشتراهم أباؤهم الحفاة بأموال النفط الذي تستخرجه أمريكا، التي تحتل بلادهم وتستبيح أرضهم!
*إننا نحن الذين ساهمنا في التقليل من قدرنا: نحن من تسببنا في ذلك بسكوتنا المستمر على الفساد وانتهاك حقوقنا.. نعذب مواطنينا ونذلهم في أقسام الشرطة والسجون فلا يجد الآخر حرجًا في تعذيبنا بسجون بلاده وانتهاك كرامتنا.. فأنت من الأصل ليس لك سعر ولا كرامة في بلادك.. نفضح أنفسنا بسبب فساد البعض ممن يستوردون أقماحًا ملوثة فينخفض مخزوننا من القمح فيقف المصريون في طوابير للحصول على كسرة خبز في مشهد فاضح تنقله الفضائيات ، مما يدفع بأحد أمراء بترول الخليج أن يهدي مصر شحنة من القمح ويملأ الدنيا بنشرة صحفية تنقلها كافة وكالات الأنباء ليظهر المصريون على شاشات الفضائيات وكأنهم يعانون من مجاعة تستحق الشفقة والتبرع بما تجود به الأيدي.
* نحن من تسببنا بخنوعنا واستسلامنا للقهر والقمع في وجود مجموعة من الموظفين لا يستحقون أن يعملوا كتبة في مصلحة حكومية بإحدى القرى النائية ليتربعوا على مقاعد سفاراتنا في العالم (ألا لعنة الله على الواسطة) والذين لا يراعون - ليس الكل بالقطع - إلا مصالحهم الشخصية .
* تحدث إلى أي مواطن مصري في أية دولة في العالم وستعرف كيف تمت معاملته حين ألجأته الظروف السيئة إلى سفارة بلاده، وقارن ذلك بما حدث لمواطنة بنغالية أُسيئت معاملتها في إحدى دول الخليج لتصدر الدولة قرارها بمنع تصدير العاملات البنغاليات نهائيًا إلى هذه الدولة، وقارن ذلك أيضًا بموقف السيدة وزيرة القوي العاملة التي تفخر بأنها وفرت عقود عمل لمصريات في مدارس وغيرها، التوصيف المحترم لها أعمال دنيئة تحط من كرامتنا حتى بات المصريون يعرفون أنهم البديل الجديد لعمال وعاملات شرق وجنوب آسيا والأقل تكلفة، والذين لا تمانع دولتهم في تسفيرهم لأداء هذه الأعمال.
أين كان سفير مصر في السودان ومواطنيه يهربون في شوارع الخرطوم من قطعان الجزارين بأسلحتهم البيضاء؟ أين كان سفير مصر في الجزائر وقطعان الجزائريين تسرق وتنهب شركتيْ أوراسكوم والمقاولون العرب اللتان تستثمران الأموال هناك بما يعود علي تلك البلاد بالنفع؟ أين الشعور بالمسئولية؟!
ولك الله يامصر؟؟؟!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق