الأمور اللازمة لإتقان العمل
إن من الأمور اللازمة لإتقان العمل والإحسان فيه:
1- الترتيب والتنظيم والانضباط :
وهي أمور مهمة، وبخاصة عندما يخرج العمل عن نطاق الفرد ليشمل جماعة من الجماعات، أو مجتمعاً من المجتمعات أو أمة من الأمم، ففى حديث الإسراء والمعراج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء" صحيح البخاري ، وقد تكرر هذا عند كل سماء عرجا إليها. فجبريل عليه السلام -وهو أفضل الملائكة- ما كان ليخفى على هؤلاء الملائكة الكرام، ومع ذلك فما فتحوا له إلا بعد أن أجابهم، وهو عليه السلام لم يقل لهم: ألا تعرفونني؟ ولم يأمرهم أن يفتحوا بلا نقاش أو كثرة كلام كما يفعل كثير من أهل الجفاء من الأزواج مع زوجاتهم مثلا، أو من الأبناء العاقين مع أهليهم، لكنه أجاب في كل مرة بتواضع على قدر السؤال، وجبريل ما كان ليعرج بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون إذن الله، وعروجه عليه السلام كان معلوماً للملائكة من قبل وبرغم ذلك فقد كانوا يستوثقون في كل مرة: "وقد أرسل إليه؟"، قال الحافظ: (قولهم: أرسل إليه؟ أي للعروج، وليس المراد أصل البعث لأن ذلك كان قد اشتهر في الملكوت الأعلى ... فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد، مثلاً) فتح الباري
2- توزيع الأدوار والتخصصات :
إذ كل ميسر لما خلق له ، فيوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ولا يكون الأمر فوضى، بل لا بد من تحديد الواجبات وتوزيع المسؤوليات، كي لا تتبعثر الجهود وتتضارب الأعمال، فلكل فرد من أفراد الجماعة أو المؤسسة دوره؛ ومما يدل على هذا الأمر أعظم دلالة ما ثبت من تعدد تخصصات الملائكة الكرام، فجبريل عليه السلام موكل بإبلاغ الوحي من الله سبحانه وتعالى لأنبيائه عليهم السلام، وبإنزال العذاب بكثير من الأمم المكذبة التي حل بها عذاب الله وانتقامه، وميكائيل عليه السلام موكل بقطر السماء، وإسرافيل موكل بالصور، فهو قد التقمه ينتظر الإذن من الرب جل وعلا كي ينفخ فيه فيصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، وللأرواح ملك كريم موكل بقبضها، وللجبال ملك، وللسحاب ملك، ورضوان على باب الجنة، ومالك خازن النار، وملائكة للرحمة، وملائكة للعذاب، وملائكة للحسنات وملائكة للسيئات، ومنكر ونكير لسؤال القبر، وهكذا.
-وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم ":أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أميناً، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " سنن الترمذي وصححه الألباني.
- وكان بلال يؤْذِن رسول الله بدخول الوقت ويؤَذِّن، وكان عبد الله بن مسعود يحمل له نعليه وطهوره ووساده، وكان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحرسونه حتى نزلت}: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ{، وكان حذيفة أمين سره عليه السلام.
-وقال تعالى: }فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {، فلكل تخصصه الذي يجيده، سواء ما تعلق بأمور الدين أو الدنيا، وبمثل هذا حاز المسلمون الأوائل قدم السبق في شتى المجالات، فعن ابن أبي أويس قال: (سمعت خالي مالك بن أنس يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين عند هذه الأساطين -وأشار إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أميناً إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ويقدم علينا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب وهو شاب فنزدحم على بابه) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي.
فجلالة المرء وديانته وأمانته شيء، وتخصصه في علم الحديث أو غيره من الأمور شيء آخر، وبهذا يعلم بطلان المبدأ الفاسد الذي سنه أهل الاستبداد من تقديم المقربين منهم -وإن لم يكونوا أهلاً لما أوكل إليهم- على أهل الخبرة من غير المقربين، وأشد من هذا ما نراه اليوم من فوضى في حياتنا، فنرى شاباً حدثاً لم تكد تنبت لحيته يتصدر للإفتاء في دين الله بعد أن يقرأ كتاباً أو كتابين.
3- بعد النظر والتطلع إلى ما ستصير إليه الأمور:
-وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى هذه المسألة في كثير من الأحاديث، فيوم جاءه خباب رضي الله عنه يشكو ما يلقاه المسلمون من عذاب على يد كفار قريش لم يكتف عليه السلام بدعوتهم للصبر كما صبر من كان قبلهم من المؤمنين، بل لفت الأنظار إلى شيء أبعد من ذلك بكثير، فقال عليه الصلاة والسلام "والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" صحيح البخاري
فأي نقلة هذه التي نقلها النبي صلى الله عليه وسلم خباباً ومَن وراءه من ضعفة المؤمنين المعذبين!
- ويوم الخندق حين بشر أصحابه بفتح بلاد فارس والروم، رغم أن العرب قد رمتهم عن قوس واحدة وجاءت لتسأصلهم عن بكرة أبيهم، ومن كان في هذه الحال إنما يكون همه أن تنجلي هذه الغمة وتنفرج هذه الكربة، لكنه عليه السلام أراد أن ينقلهم إلى ما هو أبعد بكثير، ولا شك أن كل من سمع منهم مقالة النبي صلى الله عليه وسلم لم تعد تصوراته تنحصر في أرض المعركة يوم الخندق لكنها شرقت وغربت.
4- وجود الحوافز المشجعة على إتقان العمل:
لقد شجع الإسلام على العمل، وجعل محفزات تشوق الإنسان لفعل الخير وتشجعه عليه سواء في ذلك الأعمال الدنيوية أو الدينية: فقد روى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد و أبو داود وابن حبان والطيالسي عن أبي هريرة مرفوعا:" لا يشكر الله من لا يشكر الناس". وهو حديث صحيح صححه الألباني .
فالمجتمعات التي تهتم بإتقان العمل توجِد حوافز لذلك، مثل :
– احترام العامل وحسن معاملته تنفيذا لأوامر الإسلام " ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً )(البقرة: من الآية83) "
- إعطاء العامل الأجر الذي يتناسب مع جهده فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال :}ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى عَمَلَهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ رواه الإمام البخاري في ،وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم": أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" رواه ابن ماجه
– أن يكون أجر العامل عادلا بحيث يوفر له الحياة الكريمة من الطعام والشراب والملبس والمسكن ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل و ليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم" الجامع الصحيح
– الضمان الاجتماعي: فمن حق كل مواطن تأمين راحته ومعيشته كائنا من كان ما دام مؤديا واجبه أوعاجزا عن هذا الأداء بسبب قهري لا يستطيع أن يتغلب عليه ، ولقد مر عمر بن الخطاب على يهودي يتكفف الناس فزجره واستفسر عما حمله على السؤال فلما تحقق من عجزه أرجع على نفسه باللائمة وقال له :" ما أنصفناك يا هذا أخذنا منك الجزية قويا وأهملناك ضعيفا أفرضوا له من بيت المال ما يكفيه"
5- إدراك أهمية الإتقان:
فإن من لا يدرك أهمية العلم ورفع الجهل لن يقدم على التعلم بقوة، ومن لا يدرك أهمية المحافظة على الصحة لن يعير هذا الجانب ما ينبغي من الاهتمام، وكذلك من لا يدرك أهمية الإتقان والإحسان في أداء العمل، فإنه لن يعطيه ما يكفي من الجهد والوقت بل قد تكون أعماله فوضوية عبثية لا تؤتي المرجو منها.
لماذا لا تتقن العمل ؟
1. هل تتعمد عدم الإتقان لتحقيق مكاسب مادية سريعة ؟ كالميكانيكي الذي لا يتقن صيانة السيارات والطبيب الذي لا يعالج المريض جدياً؟ ألا تعلم أن هذا المال حرام؟
2. هل أنت جاهل بكيفية الإتقان؟! لماذا لا تتعلم؟
3. هل أنت متكاسل فى عملك؟! لماذا لا تستحضر نظر الله إليك؟
4. هل لا تدرك لذة الإتقان؟! لماذا لا تفتدى بخير الناس وهم الأنبياء حتى تتذوق لذة الإتقان ، فمن ذاق عرف؟!
5.هل عزيمتك ضعيفة وتريد الأشياء بسهولة؟! ألا تعلم أنه :
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
6.هل ليس لديك صبر على مشقة العمل؟! ألا سمعت بهذا الحديث :
وعن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدرى رضي الله عنهما : أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلي الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ، حتى نفد ما عنده ، فقال لهم حين نفد كل شيء أنفق بيديه:
( ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله. وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ) البخاري
مثال فريد يُحْتَذَى
إنه محمد الفاتح الذي فتح مدينة القسطنطينية التي تصل بين البحر الأبيض المتوسط والبحر لأسود وتصل بين قارتي آسيا وأوروبا وهي من أعظم المراكز التجارية في العصور الوسطى.
قال عنها نابليون إنها تصلح لتكون عاصمة للعالم أجمع لموقعها الفريد. ومن يستطيع السيطرة عليها يملك العالم.
واستمرت محاولات المسلمين لفتحها منذ عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وحتى عصر محمد الفاتح، أي حوالي 800 سنة. وكانت محصنة بطريقة يستحيل على أي جيش أن يقتحمها بالوسائل التقليدية.
فهي عبارة عن مثلث تحيط به مياه البحر من ناحيتين ومن الناحية الثالثة يحيط بها سوران وخندق مائي عرضه 60 قدماً وعمقه
كما يحمي المدينة من ناحية البحر 400 سفينة.
وكان محمد الفاتح في صغره غير محب للعلم ولهذا أحضر له والده المعلمين ليؤدبوه ويعلموه. وقام معلمه بغرس حب الاستقامة والدين ونصرة الإسلام فيه من الصغر. وأخذ يزرع فيه فكرة أن يكون هو قاهر الرومان وفاتح القسطنطينية.
وبدأ يعد نفسه لهذه المهمة الشاقة. فحفظ القرآن الكريم ثم أتقن 5 لغات: العربية والتركية والفارسية واللاتينية والإغريقية القديمة. ثم تعلم الفلك والجغرافيا والتاريخ وتعلم فنون الإدارة والفنون الحربية حتى صار فارساً مغواراً لا يشق له غبار.
ثم أتى معلمه فروى له حديث الرسول عن فتح القسطنطينية وزرع فيه أن يكون هو هذا الرجل الذي يفتحها.
فبدأ يحصل على العلم والخبرة والهدف والإرادة والصبر والمثابرة على النجاح.
وكان يتحدث عن نفسه فيقول: إن لي قلباً كالصخر لا يهدأ ولا يلين حتى أحقق ما أريد.
وتولى حكم المسلمين عقب وفاة والده وهو في الثالثة والعشرين من عمره. فبدأ في تنفيذ حلمه. وأخذ يستعين بأهل الخبرة والعلم وسألهم لم لا نستطيع أن نفتح القسطنطينية؟
فردوا عليه بأنه توجد 3 أسباب:
1. عدم وجود حصون للمسلمين عند بداية الحصار فيصبح المسلمون في العراء في الشتاء القارص. ويستغرق بناءه سنة.
2. عدم وجود مدفع يستطيع أن يخترق سمك الأسوار ولا ارتفاعها.
3. امتداد سلسلة بعرض الخليج تمنع سفن المسلمين من دخول الخليج وتهديد الأسوار الضعيفة.
يا لها من مهمة تكاد تكون مستحيلة، ولكن القلب العامر بالحماسة والإرادة لا يستسلم أمام العقبات.
خطة فتح القسطنطينية:
لقد وضع محمد الفاتح خطة عبقرية تحدث عنها المستشرقون وقالوا إن هذا الرجل سبق الإسكندر الأكبر ونابليون. فقد قام محمد الفاتح بعد تحديد أسباب الفشل في الفتح بحلها واحداً تلو الآخر.
1) فقرر بناء حصن في مدة زمنية لا تتعدى الثلاثة أشهر. فجمع العمال واختارهم من العمال المتقنين المهرة وحفزهم بقوله: أتحبون أن تكونوا من أتباع رسول الله يوم القيامة. فتم بناء قلعة عظيمة يستغرق بناؤها سنة كاملة في 3 شهور فقط.
2) قرر أن يتم اختراع مدفع جديد. وكانت فكرة الاختراع موجودة عند عالم مجري قام الرومان بسجنه في سجن داخل القسطنطينية. فقرر محمد الفاتح أن يقوم بفك أسره وذلك عن طريق حفر نفق يمر أسفل الخليج وأسوار المدينة ويصل لغرفة الأسير. وقام بحفر نفقين بدلاً من نفق واحد ليتخلص من تراب الحفر في مياه البحر حتى لا يعرف الرومان بما يجري. واعتمد على تحديد موقع الأسير على الجواسيس. وبالفعل نفذت الخطة وتم تحريره.
وقام بتنفيذ المدفع في 3 شهور أخرى وصار المدفع جاهزاً للاستخدام. وكان وزنه 700 رطل يقوم بجره 100 ثور ومعهم 100 رجل من الأشداء. وفي أثناء تجربة المدفع سمع دويه من على بعد
3) ثم موضوع السلسلة التي تعوق دخول أسطول المسلمين إلى داخل الخليج حتى تصل إلى الأسوار فقرر أن يقوم بعمل فريد من نوعه، فقام بعمل ممر تسير فيه السفن خلال الجبل حتى تصل مباشرة إلى داخل الخليج بدون المرور عبر السلسلة وهذه المسافة تقدر ب3 أميال. واستعمل في ذلك قضبان خشبية دهنها بالزيت لتسهل من حركة السفن وكان عددها 70 سفينة. واستعمل في جرها مئات الثيران ومئات الرجال. واستغرق نقل السفن من بعد غروب الشمس حتى ما قبل الفجر. وذلك ليفاجئ الرومان. واستغرق الحصار 53 يوماً. وفي الليلة السابقة لبدء الهجوم قام باستعمال الموسيقى الحماسية والأناشيد الإسلامية وإكثار الصلاة والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وعقب فتح القسطنطينية صلى الجيش كله ركعتين.وجاء معلمه الذي كان السبب في تغيير مجرى حياته فكرمه أمام الجيش كله.وصار محمد بن مراد محمد الفاتح لفتحه المدينة العظيمة وصار بحق جديراً بلقبه هذا.
أوجدت دقة وإتقانا أعظم من هذا النموذج الفريد الذى سطر أحرفا من نور فى تاريخنا العظيم !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق